مقال تحليلي لعبد الستار قاسم
عبد الستار قاسم
جحيم ينهمر على غزة، وسيستمر. ضحاياكثيرة ستسقط، والتضحيات الفلسطينية الجسام مطلوبة، وهي متوفرة بإرادة واعية وعقيدةصلبة. إسرائيل لا تبحث عن مجرد ليّ ذراع، وإنما تريد تدمير حماس تماما، وكلالمقاومة الفلسطينية في القطاع. إسرائيل لا تبحث عن وقف إطلاق الصواريخ، وإنما تهدفإلى قلب الأوضاع في غزة لكي تعود غزة إلى بيت الطاعة المتمثل في المشروع الإسرائيليالأمريكي لتصفية القضية الفلسطينية. لكن ماذا بيد إسرائيل أن تفعل؟ أرىالتالي:
أولا: من الناحية العسكرية، لدى إسرائيل الخياراتالتالية:
1- استعمال الطيران بكثافة، وهذا ما تقوم به الآن. سينجح الطيرانبضرب أهداف كثيرة عسكرية ومدنية، وسيوقع الكثير من الضحايا، وهذا ما حصل حتى الآن. لكن الطيران مقيد بأمرين وهما: ا- المعلومات المتوفرة لدى أجهزة المخابرات حولالمواقع ذات الأهمية الأمنية والعسكرية؛ ب- أن الطيران لا يحسم المعركة على الأرض. بالنسبة للنقطة الأولى، واضح أن إسرائيل تعاني من نقص في المعلومات من حيث أنالخسائرفي صفوف المقاومين الفلسطينيين قليلة مقارنة بالخسائر التي تكبدتها أجهزةالشرطة والمدنيون. وبالنسبة للنقطة الثانية، يتوضح لإسرائيل الآن أن كثافة القصفالجوي لم تفلح في دفع المقاومة الفلسطينية نحو الاستسلام.
2- تتمثل الخطوةالعسكرية الثانية في اجتياحات برية هامشية على أطراف المدن. هذه الاجتياحات أيضا لاتحقق هدف تغيير الوضع القائم في غزة، وسبق لها أن فشلت على الرغم من الخسائرالكبيرة التي أوقعتها في الأرواح والممتلكات. من المحتمل أن تستعمل إسرائيل هذاالتكتيك من أجل أن تستكشف قدرة المقاومة القتالية والتسليحية. إسرائيل تتخوف منأسلحة فتاكة قد تكون موجودة بيد المقاومة، وهي لا ترغب في تكرار فشل حرب عام 2006ضد حزب الله. وفي كل الأحوال، اجتياحات من هذا القبيل لا تجدي نفعا إلا إيقاع خسائركبيرة في الجانب الفلسطيني.
3- أما الخيار الثالث فيتمثل بالاجتياح البريالشامل. لهذا الخيار محاذيره الكثيرة وهي:
أ- القدرة العسكرية التكتيكيةلأي جيش نظامي في قطاع غزة ضعيفة وذلك بسبب الازدحام السكني والسكاني، بينما القدرةالتكتيكية للمقاومة عالية. الازدحام السكاني يعرقل حركة الجيش النظامي، بينما يساعدالمقاوم على الكر والفر. هذا يعني أن خسائر الجيش الإسرائيلية ستكون مرتفعة، بينماالخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين ستكون عالية. الخسائر في صفوف الجيش ستجلباستياء عاما لدى اليهود في فلسطين المحتلة/48، وستجلب الخسائر في صفوف المدنيينالفلسطينيين سطوة الإعلام العالمي بسبب التقارير الإعلامية التي ستملأ الشاشات حولأشلاء الأطفال ونحيب النساء. إسرائيل لا تريد هذه النتيجة، ولا تريدتلك.
ب-إسرائيل لا تأمن ماذا بحوزة المقاومة من أسلحة. ماذا لو تبين أن لدىالمقاومة أسلحة تفتك بالدبابات؟ وماذا لو تبين أن المقاومة مخندقة جيدا، ولا تستطيعمعها إسرائيل أن تخرج من الفخ؟ إذا كانت المقاومة الفلسطينية مخندقة (وهي مخندقةبالفعل) وتملك أسلحة مضادة للدبابات، فإنه من المتوقع أن تكون خسائر إسرائيل كبيرة،ومن المتوقع أن يقع جنود إسرائيليون أسرى. وقوع أسرى سيقلب الطاولة على رأس إسرائيلورؤوس أنظمة الإعوجاج العربي.
ت- اجتياح قطاع غزة لا يضمن لإسرائيل هدوءالقطاع على الرغم من أنه من الممكن السيطرة على مسألة إطلاق الصواريخ. بقيت إسرائيلفي قطاع غزة حوالي 39 عاما، ولم تستطع القضاء على المقاومة، فهل ستستطيع القضاءعليها خلال عدة أشهر من الاحتلال؟ إسرائيل تعي تماما أن المقاومة الفلسطينية ليستمجرد عدد محدود من الأفراد، وهي مقاومة ممتدة في العمق السكاني.
ث- وفيماإذا حصل الاجتياح وسقطت غزة، لمن ستسلم إسرائيل القطاع، وهل سيستطيع المستلم الجديدالسيطرة على الأوضاع؟
ج- إسرائيل تحسب أيضا الأضرار التي يمكن أن تنعكس علىأنظمة الإعوجاج العربي والتي تسميها هي بأنظمة الاعتدال. تلقت هذه الأنظمة حتى الآنمن الشتائم والسباب على طول الوطن العربي وعرضه ما يكفيها لعدة سنوات، فكيف يمكن أنتتطور المظاهرات العربية والاحتجاجات إذا حصل الاجتياح البري وبدأ سقوط المدنيينبكثافة مرعبة؟ إسرائيل حريصة على هذه الأنظمة العربية، وتعي تماما أن بقاء هذهالأنظمة يخدم مصالحها التكتيكية والاستراتيجية. لا شك بأن هذه الأنظمة تتصلبإسرائيل باستمرار وتطلب منها السرعة في إنجاز المهمة مع ضرورة التقليل من الخسائرفي صفوف الفلسطينيين، وتؤكد لها ضرورة تجنب وضعها في المزيد من المواقف غيرالمشرفة.
في النهاية أقول إن الخيار العسكري عبارة عن مغامرة، ولا يوجد مايجعل إسرائيل متأكدة من الانتصار، وتغيير الأوضاع في القطاع وفق هواها. وواضح الآنأن قادة إسرائيل العسكريين والسياسيين منكبون على تقييم الأوضاع الميدانية، وهممتحسبون جدا من كل خطوة يقومون بها.
ثانيا: على المستوى الشعبي
تظنإسرائيل ومعها أنظمة عربية عدة أن القصف والقتل سيثوّر الشارع في قطاع غزة ضد حركةحماس، وسيتحرك من أجل إسقاطها. هذا كان هدف الحصار المستمر منذ حوالي ثمانية عشرشهرا. ظنت إسرائيل ومن معها من الأنظمة أن حماس ستسقط خلال فترة تمتد إلى ثلاثةأشهر على أبعد تقدير، لكن الأشهر مرت وحماس بقيت. ربما تطور الظن الآن إلى أن الناسسيتحركون تحت وطأة الخسائر الهائلة.
مما لاحظت في الآونة الأخيرة، أستبعد أنيهب الناس في وجه حماس بسبب قاعدتها الشعبية الواسعة والمرتكزة على بعد "عقائدي". صحيح أن هناك أشخاصا مناهضين لحماس، ويكرهونها بشدة، ومنهم من يشعر بالارتياح للقصفالإسرائيلي، لكنني لا أرى أن لديهم قدرة على تحريك الشارع الغزي ضد حماس، ولا أرىأن لديهم قدرة على مواجهة مؤيدي حماس إن خرجوا إلى الشارع محتجين.
الشارعالعربي يشكل دعما قويا لحماس ولو بطريقة غير مباشرة. الشارع العربي يتظاهر الآن فيدعم أهل غزة ومقاومة غزة، وبما أن حماس هي التي تشرف على القطاع، فإنها بصورة أوبأخرى تحقق الفائدة الكبيرة من الاحتجاجات العربية، وتجعل من إشرافها على القطاعأكثر قوة وأكثر قبولا. حركة الشارع العربي تشكل رادعا لإسرائيل لأنها حركة تهددالأنظمة العربية، أو على الأقل تضعها في موااقف محرجة، وربما تجد إسرائيل نفسها تحتضغط هذه الأنظمة للتخفيف من حملتها العسكرية أو لوقفها تماما.
من الناحيةالأخرى، ماذا عن المقاومة؟ أرى التالي:
أولا: واضح أن الناس متماسكون فيقطاع غزة على الرغم من الخسائر الهائلة التي يتكبدونها. يبدو الشارع الفلسطينيمتكاتفا متضامنا، ومستعدا لامتصاص الصدمات والضربات. يبدو أن الناس في غزة قد تخلواكثيرا عن الـ"أنا" ، وهم بتعاملون على مستوى "نحن" بحيث تمتد أيدي المساعدة بصورةمتبادلة.
ثانيا: هناك مؤشرات على أن استعداد المقاومة الفلسطينية في غزةجيد، أذكر منها:
أ- استطاعت قناة الأقصى الفضائية الاستمرار في البث علىالرغم من أن مبناها الرئيسي قد دمر.
ب- الغالبية الساحقة من الشهداء منأفراد الشرطة والمدنيين، بينما الخسائر في صفوف المقاومين المحترفين قليلة جدا. هذايدل على الاستعداد الكامن لدى المقاومة.
ت- لا يلاحظ المراقب ظهورا عسكريااستعراضيا في شوارع غزة، وهذا سلوك جديد في تاريخ المقاومة الفلسطينية.
ث- الكلام الكبير الاعتباطي حول قدرات المقاومة غير موجود، وهذا يشير إلى عمل صامت قديخفي مفاجآت كبيرة.
ماذا عن السلطة الفلسطينية؟
تقديري أن السلطةالفلسطينية هي أكبر الخاسرين في هذه المعركة. إن تغير الواقع في غزة واستلمت السلطةالفلسطينية المسؤولية فإنها ستبقى في دائرة الاتهام الشديد لأنها اعتمدت علىالاحتلال في إعادتها إلى غزة. وهي لن تكون أفضل حالا إن بقيت المقاومة صامدة علىاعتبار أن أسهم المقاومة ستنال منها بعد استقرار الأحوال؛ فضلا عن أسهمالناس.
إلى ماذا ستؤول الأمور؟ أرى التالي:
المقاومة الفلسطينيةستصمد، وستظهر شراسة قتالية منقطعة النظير على الرغم من شحّ السلاح وتفوق العدوالعسكري. كلما طال صمود المقاومة يتزايد الدعم لها على المستويات الشعبية، وربماعلى بعض المستويات الرسمية العربية. لاحظنا في اجتياحات سابقة أن المقاومينالفلسطينيين لا يتركون مواقعهم، وهذا أشد ما يخيف إسرائيل. الروح القتالية لدىالمقاومة عالية جدا، وسنجد فلسطينيين يفجرون أنفسهم بالدباباتالصهيونية.
تدرك المقاومة الفلسطينية أن هذه المعركة على أرض غزة هي معركةتاريخية فاصلة، والقضية الفلسطينية لا تحتمل هزيمة أو تراجعا، وإلا فإن الفلسطينيينسيفقدون دورهم الريادي في تحرير وطنهم.
إسرائيل لا تحتمل حربا طويلة بسببوضع الأنظمة العربية الهش، وهي تدرك أن أنظمة الإعوجاج العربي عبارة عن عبء كبيرعلى كاهلها الآن، وأنها لا تستطيع الاستمرار في القتال الدامي إن طال أمد الصمود. الأنظمة العربية أشد رغبة في إنهاء المعارك من إسرائيل، لكنها ليست هي التي تقاتلعلى الأرض.
صمود المقاومة الفلسطينية هو النصر بحد ذاته، وإذا تحقق فإنأوضاعا فلسطينية ستتغير، كما أن تعامل دول عربية كثيرة مع المقاومة الفلسطينيةسيتغير.
المصدر: موقع اخباريات
مواقع النشر (المفضلة)