القائد المجاهد محمد العجلوني / البناة الكبار في المراحل الصعبة
كان من حاضرة الشمال العابقة بالتاريخ، المزروع في ثنايا القلعة الحصينة، تلك البلدة التي نهضت بجبالها الخضراء، ورجالها الأحرار الرافعين رايات النضال منذ زحف صلاح الدين الأيوبي و قائده أسامة بن منقذ، من أجل تحرير بيت المقدس، ودفع الغزاة الصليبيين إلى ما وراء البحر الأبيض.
كانت النفوس الرجال كما قمم الجبال تهفوا إلى القدس الجريحة، هكذا كانت عجلون نقطة الارتكاز في مسيرة تحرير الأرض و الإنسان، في زمن الزحف الكبير، وهكذا تربى أبناء هذه الأرض المرابطة منذ فجر الحضارة في شرق المتوسط، وفي العهد العثماني كانت عجلون مركز ناحية الشمال، تتبع لها اربد وجرش و محيطهما، وقد سجلت هذه المناطق أروع الأمثلة للفداء و الشهادة في سبيل نهضة الأمة وتحررها، فأرض فلسطين وميادين المعارك في سهل حوران و قرى الجولان، ما زالت تذكر بطولاتهم وتتطيب بطهر دماء الشهداء من مقاتليهم، الذين تركوا الأهل و البيت وهبوا لنصرة الشقيق والجار، ودفع الظلم عن الأوطان التي تمثل الوطن الواحد الكبير، فقدر هذا التراب أن يكون أرضاً للرباط و الحشد.
مع بدء أفول نجم الإمبراطورية العثمانية منذ أواخر القرن الثامن عشر، وانكماشها السريع بعد ذلك، وما نتج عن الأحوال السياسية السيئة في العاصمة الأستانة ، من قمع وتنكيل للعرب، الأمر الذي أسهم في يقظة العرب ، ومحاولتهم النهوض بأوضاعهم، مما أوجد حالة من التعبئة الناتجة عن ازدياد وعي العرب بمكانتهم ودورهم الحضاري، وضرورة تغيير الواقع الصعب، فتشكلت الجمعيات السياسية، وبدأ الحراك التحرري يظهر إلى حيز الوجود، وفي ظل هذه المرحلة الحاسمة ولد المناضل محمد علي العجلوني، في عنجرة إحدى البلدات النابضة بالحياة والحركة ، ويرجح أن ولادته كانت في نحو عام 1893م، فنشأ في أكناف جبل عوف الذي تنتصب على قمته القلعة الرابضة كشيخ جليل يخبئ الحكمة وأخبار الانتصارات ، كانت طفولته بلا شك ترقب للمدى البعيد المرفرف فوق فضاءات القدس ، وارتاد المضافات الزاخرة بقصص الرجال المقاتلين، وحكايات الفرسان المحررين، فلم تكن مجرد طفولة محايدة وهو يشهد على ظلم الدولة ومن ولتهم الأمر من أبناء جلدتها، ويتذوق مرارة عيش الأهل في ظل الإهمال والتمييز، فلقد ذابت طفولة الصغار في الوعي المبكر.
التحق محمد العجلوني بالكتّاب لكي يتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب وحفظ القرآن الكريم، كما هي عادة أبناء المنطقة في ذلك الزمن ممن يحصلون على فرصة كهذه، ولعله تأثر بوالده الذي كان يتقن القراءة والكتابة، لكن هذه المحطة لم تدم طويلاً حيث أنتقل بعدها إلى المدرسة الحكومية المتوفرة في البلدة، راغباً في الحصول على فرصة أفضل في تلقي العلم، ولم تكن المدارس متوفرة بالشكل اللائق هذا إذا وجدت في مكان قريب، لذلك أضطر العجلوني إلى ترك بلدته عنجرة للسفر إلى دمشق من أجل إكمال دراسته في مدارس الشام، وهذه معاناة وتجربة ليست بالسهلة على طالب مدرسة في مثل عمره ، في ظل قلة وسائل المواصلات و الاتصالات، لكن الرجال هم أبناء التجارب الصعبة و الظروف القاسية، وقد واصل الدراسة حتى حاز على مبتغاة، لكن طموحاته لم تقف عند هذا الحد ، فالرغبة في تحصيل المزيد من العلم بقيت تلاحقه، حتى شد الرحال صوب قاهرة المعز في مصر، حيث أنتظم في الأزهر الشريف ناهلاً من علم العلماء والشيوخ، ومستفيداً من الاطلاع على النهضة العلمية والثقافية في مصر، مما مكنه من بناء وعيه الخاص، الذي ساعده على خدمة أمته ووطنه عندما حان الوقت، وناداه الواجب وهو من يلبي النداء.
اندلعت الحرب العالمية الأولى في العام 1914م، وأرتج الشرق و الغرب، واضطربت الأحوال في المنطقة العربية، وقطعت سبل المواصلات بين مصر وبلاد الشام، مما حرم العجلوني من إمكانية إكمال دراسته في الأزهر الشريف، عندها أضطر إلى الإتحاق بالخدمة العسكرية التي لاحقت معظم شباب العرب الخاضعين لحكم الدولة العثمانية، فكان مخلصاً ومتميزاً مما أهله للترقية والمكانة العسكرية المناسبة، وكانت الأمة العربية قد ضاقت ذرعاً بما آلت إليه أحوالها بسبب ظلم الحكم التركي في عهد الإتحاد و الترقي العنصري، فأطلق الشريف الحسين بن على الرصاصة الأولى للثورة العربية الكبرى، وتقدمت القوات العربية الثائرة نحو الشمال، وبدا أن حلم الحرية و الوحدة قد حانت ساعته، فاستجاب الضباط العرب في الجيش التركي لدعوة الشريف الهاشمي، وتركوا مواقعهم وخلعوا بزاتهم العسكرية، والتحقوا بجيش الثورة العربية.
ترك محمد العجلوني الجيش التركي وتوجه سراً إلى جنوب الأردن حيث أنضم إلى الجيش العربي بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، وقد خاض العجلوني معارك الثورة، مستثمراً خبرته العسكرية خدمة لقضية العرب في الحرية والوحدة، وكان من المقاتلين المقربين من الأمير فيصل، فعندما تحقق النصر ودخلت القوات العربية إلى دمشق، وتم مبايعة الأمير فيصل ملكاً عليها، قام الملك بتعيين العجلوني رئيساً للحرس الخاص، مما يدلل على الثقة التي تمتع بعها، و المكانة التي أختصه بها قائد جيش الثورة، غير أن ما دبر بليل للدولة العربية الناشئة كان قاسماً للظهر، فقد تحركت جحافل الجيش الفرنسي صوب دمشق، وأستعد العرب للمعركة التي فرضت عليهم، فكانت معركة ميسلون المعروفة، فخاضها العجلوني مع القائد يوسف العظمة ، ويقول العجلوني في مذكراته أن العظمة ارتدى معطفه العسكري قبيل المعركة، وودعه بحرارة ، وانتهت المعركة بانتصار الآلة العسكرية الفرنسية، واستشهاد القائد يوسف العظمة، مما أصاب المشروع العربي بنكسة قاسية.
عاد العجلوني إلى الأردن الذي أصبح الملاذ الآمن للمناضلين العرب، والرافد الفعلي للثوار ضد المستعمر الفرنسي والبريطاني، وعندما وصل الأمير عبد الله بن الحسين إلى عمّان، وشرع بتأسيس إمارة شرق الأردن عام 1921م، لم يتوان العجلوني عن خدمة بلده، حيث تم تعيينه قائداً للدرك في البلقاء، مرحلة جديدة من النضال من أجل المساهمة في بناء الدولة الأردنية الحديثة في ظروف صعبة العامرة بالمخاطر، وكانت هذه المهمة التي كلف بها العجلوني ذات أثر في حفظ الأمن، والمشاركة في بناء هيبة الدولة الناشئة، وقد أنخرط بعد ذلك في الجيش العربي الأردني الأخذ في الاشتداد في ظل ظروف عربية ودولية بالغة التعقيد ، وهو الجيش الذي وضع بصمته البطولية على سير الأحداث العسكرية فقد محلياً وعربياً منذ بواكير تأسيسه، وقد كان أداء محمد العجلوني المعهود يرافق مسيرته في الخدمة العسكرية، مما أكد أحقيته في الترقيات وتسلم أرفع المناصب العسكرية، فلق وصل إلى منصب مساعد قائد الجيش.
بعد تقاعده من الخدمة العسكرية، توجه العجلوني إلى الخدمة المدنية، مقدماً بذلك عمره كاملاً في سبيل بناء الوطن الفتي، فكان بحق من البناة الأوائل الذين لم يدخروا جهداً من أجل أردن حديث قادر على خدمة الوطن الأكبر والأمة الأعرق، وقد شغل العجلوني مناصب دبلوماسية عديدة، وكانت له تجارب حزبية ذات توجهات قومية عربية، وفي عهد الملك طلال بن عبد الله عين العجلوني وزيراً للداخلية، وبعد ذلك تم اختياره عضواً في مجلس الأعيان الأردني.
أن الذاكرة الوطنية زاخرة برجال كبار بفعلهم ، عظماء بانتمائهم العربي الأصيل كعهد الأردنيين في كل زمان، لم تكن وطنيتهم الناصعة إلا صورة عن عمق نضالهم وولائهم للقضايا العربية، فلقد قدموا للأمة وطناً عربياً حراً آمناً مازال يحتضن الأشقاء كلما ادلهمت الخطوب وأغلقت النافذ.
مواقع النشر (المفضلة)