يعتبر علم النفس أكثر فروع العلم المعاصر فشلاً في التعامل المعرفي الصائب مع هذا الواقع، فعلم النفس الذي بين أيدينا لا يجاريه علم آخر تخبطاً في مباحثه وعجزاً عن فهم ما يحدث في ظواهره وكثرة ادعاء وقلة عمل! وهذا ليس تجنياً على علم النفس المعاصر بحالٍ من الأحوال. فعلم النفس قدره أن يكون أكثر فروع العلم المعاصر أخطاءً مادامت الظاهرة الإنسانية هي مادة مباحثه نفساً لا جسماً، ومادام تعامله مع الظواهر السايكولوجية يأبى أن يتخذ المنهج التجريبي- الاختباري أداته المعرفية الوحيدة استكشافاً لما يحدث في هذه الظواهر بعيداً عن شوائب التنظير والتفسير الوهميين. إن علم النفس الذي بين أيدينا اليوم علم ليس كغيره من فروع العلم المعاصر مادامت الظاهرة الإنسانية قد شغلته بجانبها الأكثر استعصاء على التعامل المعرفي الصائب معه. فالنفس الإنسانية، وإن كانت عبارة عن فعالية دماغية المادة ليس إلا، لا تملك ما يجعل منها قابلة للخضوع لمعايير التجريب والاختبار، خضوع باقي الفعاليات البايولوجية الإنسانية الأخرى. وهذا الاستعصاء على الخضوع للشروط المختبرية قد تأتّى لها بسبب من استخفائها لطافة في المادة ودقة. فمادة النفس الإنسانية دماغية بكل تأكيد. إلا أن هذا ليس بالضرورة بقادر على جعلها في متناول أيدي البحث التجريبي- الاختباري. فمادامت المادة البايولوجية للنفس الإنسانية فائقة الدقة، بالغة الصغر، فإن التعامل المختبري معها لن يكون كالتعامل مع المادة البايولوجية لأجزاء الإنسان الأخرى كالقلب أو الأسنان مثلاً. فمادة النفس الإنسانية هي هذا الدماغ. ولكن مهلاً، فهي ليست الدماغ، بل مفردات منه تشارك مع غيرها من باقي مفرداته في تكوينه. إن النفس التي يدرسها علم النفس هي فعاليات بالغة اللطافة، فائقة الدقة، تتخذ لها داخل مادة الدماغ الإنساني مسرحاً كيما تحدث. وهذا ما يجعل من مهمة رصدها في بيئتها الواقعية أمراً بالغ الخطورة على حياة الإنسان مادام حياً. وهذا أيضاً ما يجعل من هذه المهمة بالغة الصعوبة. فمفردات المادة البايولوجية الإنسانية التي يتعامل علم الطب معها مفردات عملاقة، إذا ما قورنت بمفردات مادة النفس الإنسانية. إن النفس التي يدرسها علم النفس عبارة عن فعاليات بايوإلكترونية تحدث في مادة دماغ الإنسان، وهي لذلك عصية على التعامل المختبري معها مقارنة بالفعاليات البايولوجية الأخرى والتي بمستطاع علم الطب التعامل معها بكل يسر وسهولة مادامت مادتها ليست إلكترونية فتستعصي على الملاحظة والملاحقة. ولكن إذا كان هذا هو قدر علم النفس المفروض عليه بسبب من اختياره الانشغال بهذه النفس الخفية، فإن هذا القدر أبداً لن يكون له أن يسوغ لعلماء النفس استعانتهم بنظريات سايكولوجية كهذه التي بين ايدينا والتي لا قيام لعلم النفس إلا بها. لقد اتجه علماء النفس «لتعويض النقص» في المنظومة المعلوماتية السايكولوجية بقيامهم بصياغة نظريات توهموا معها أنها قادرة على استكمال هذا النقص بموجودات من عندياتها استعاضوا بها عن المنظومات البايوإلكترونية التي لم ينجحوا في الوقوع عليها داخل مادة الدماغ الإنساني، لاستحالة ذلك مادام الدماغ لا حياة له إلا بها، ومادام حصولهم عليها يتطلب في حال توفر التقنيات اللازمة لذلك، التضحية بهذا الدماغ! علم نظريات لا علم وقائع! إن النظريات السايكولوجية لا تقل خرصاً بيّناً عن أي نظريات علمية أخرى، يستعان بها تعويضاً للنقص الملاحظ في الظاهرة قيد الدرس «بموجودات نظرية» مادام قد استعصى على صائغيها الوقوع على مفردات واقعية لهذه الظاهرة لابد من إضافتها لباقي المفردات التي في اليد «استكمالاً للصورة»، وتوطئة لفهم ما يحدث فيها! إلا أن علم النفس تفوق على كل فروع العلم المعاصر بقيامه على أساس نظري لا وجه للمقارنة بينه وبين أي أساس نظري آخر، لأي علم آخر من علوم العلم المعاصر. فعلم النفس علم نظريات لا علم وقائع إلا قليلاً، وهذا الهوس المَرَضي بالنظريات هو الذي جعل من علم النفس الذي بين أيدينا أكثر فروع العلم المعاصر فشلاً، لقد كان يجدر بعلم النفس أن يعرض عن التنظير بدل هذا الانشغال المهووس به، وذلك بأن يقتصر تعامله مع الظواهر السايكولوجية على ما هي عليه واقعاً، مادام قد استحال عليه الوقوع على ماهي عليه حقيقة، وذلك لاستحالة تمكنه من التوغل عميقاً داخل المادة البايولوجية للدماغ الإنساني الحي ملاحظة وملاحقة لمفرداتها المسؤولة عن حدوث هذه الظواهر، فعلم النفس الصائب لابد من أن يكون علماً تجريبياً- اختبارياً فحسب. وهذا ما يؤمن له أن تكون منظومته المعرفية بعيدة، البعد كله، عن هذا الخبال الذي لا قيام للنظريات السايكولوجية إلا به، فإذا ما استحال على علم النفس أن يقع على أسباب حدوث الظواهر السايكولوجية فلماذا لا يقنع بما بين يديه من ظواهر لا حاجة لافتراض ما يُتوهّم معه بأنه قادر على التعليل لما يحدث فيها، مادام هذا التعليل لن يقوده إلى شيء ذي بال بشهادة فشله الذريع في علاج معظم الحالات المرضية التي استُقدم لعلاجها؟ إن السبيل الوحيد لنجاة علم النفس من مشاكله المعرفية يكمن في التزامه الحرفي بالواقع السايكولوجي دون ابتعاد عنه، وتجاوز له تطاولاً لما ليس بالإمكان الوقوع عليه، مادام الحاجز بين عالم النفس والظاهرة السايكولوجية حاجزاً قد شيدته الخصوصية التي تفردت بها النفس الإنسانية بمادتها الدماغية التي لا تشابه بينها وبين أي مادة بايولوجية أخرى على الإطلاق. خبالات النوع الإنساني فعلم النفس أبداً لن يتمكن من الاستعانة بنظرياته السايكولوجية في التعليل الصائب لما يحدث حقيقة في الظواهر التي يدرسها تعليلاً يطال الأسباب الحقيقية وراء حدوث هذه الظواهر. فلا عُقد نفسية لها أن تعلل بنجاح لهذا الخبال المميز للنوع الإنساني برمته إلا قليلاً. إن استعانة علم النفس الذي بين ايدينا بالماضي الإنساني تعليلاً لحاضره الشقي بأنواع الاضطرابات النفسية لن تجديه نفعاً حقيقياً، مادام هذا الماضي لا يتجاوز سنوات الطفولة، فطفولة الإنسان، لا النوع الإنساني هي المسؤولة، كما يظن علم النفس الذي بين أيدينا اليوم، عن أمراضه وعلله النفسية، إن العودة إلى الماضي الإنساني لها أن تعين المتدبر في خبالات النوع الإنساني على الوقوع على حقائق كثيرة ولكن شريطة أن تكون هذه العودة عودة إلى الماضي السحيق للنوع الإنساني قاطبة، وليس إلى ماضي فرد، وأفراد من هذا النوع، يظن بهم أنهم وحدهم مَنْ التاثت منهم العقول لهذا السبب أو ذاك مما له علاقة بماض طفولي كان له أن يجعل من واحدهم ملتاث العقل مضطربه، فإذا كان الواقع الإنساني عاجزاً على أن يشهد لهذا الإنسان كائناً من كان إلا ما رحم ربي، إلا بأنه لا يحيا في غياب الخبال الدماغي، بتجلياته التي يصعب حصرها لضخامة تنويعاتها تشعباً وتلوّناً، فإن هذا دليل لا حاجة معه لدليل آخر، على أن الماضي الذي يتوجب علينا العودة إليه- استعانة به على فهم ما نراه في الواقع الإنساني من فنون الجنون- هو ماضي النوع الإنساني وليس الماضي الخاص بفرد ما، أو أفراد على وجه التعيين، فالنوع الإنساني ملتاث برمته إلا قليلاً ممن رحم ربي! وهذه اللوثة الجماعية لا يمكن للماضي الفردي لكل إنسان أن يكون المسؤول عن حدوثها الجماعي هذا، لذا فإن على علم النفس أن يعود إلى ماضي النوع الإنساني إذا ما هو أراد أن يكون صادقاً في بحثه عن حقيقة ما يحدث لهذا الإنسان بتواجده مع الآخرين من أفراد نوعه أو لمفرده، إلا أن عودةً إلى الماضي كهذه تتطلب أن يكون لعلم النفس آلة زمن بوسعها أن تنقله إلى زمان بعيد جداً، هو ذاك الذي شهد تشكل الماضي الإنساني. وهذه العودة إلى ماضي النوع الإنساني ليس لأحد أن يكفلها لعلم النفس إلا: القرآن الكريم. الوسيلة الوحيدة ولكن لماذا كان القرآن العظيم الوسيلة الوحيدة للوقوع على الحقيقة الكامنة وراء هذا الواقع الإنساني الملتاث خبالاً واضطرابات نفسية لا تني تزداد ساعة فساعة بتسارع ابتعاد الإنسان عن خالقه؟ إننا إذا ما تدبرنا هذا القرآن بعين عقل سليم، فإننا واقعون لا محالة على حقيقة مفادها أن الله قد ضمن كتابه العزيز كل ما من شأنه أن يكشف النقاب عن الحقيقة الإنسانية، هذه الحقيقة التي يجلّيها واضحة كل الوضوح الواقع الإنساني الذي نعاني كلنا جميعاً من قاسي سطوته علينا. فالقرآن العظيم يبين لمتدبره حقيقة هذا الإنسان الذي يريدنا مؤلّهوه أن نشاركهم خرصهم بشأنه إذ يرونه كائناً مثالي الخصال كامل الأوصاف! إن الواقع الإنساني ليوافق القرآن العظيم لا هؤلاء الذين لا يرون في الإنسان إلا ما يؤكد صواب نظرتهم الرومانسية الحالمة إليه، لقد قالها هذا القرآن واضحة جلية إذ أسقط هذا القناع الرومانسي وأظهر الإنسان على حقيقته وبوجهه الذي نعرفه جيداً كما نعرف أبناءنا، فالإنسان كما نعرفه هو كما وصفه هذا القرآن إذ قال فيه: { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون}{ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور}،{ وآتاكم من كل ماسألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} ، {خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين}،{ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولاً}،{ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفوراً}،{ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤوسا}،{قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً}،{ولقد صرّفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً}،{وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور}،{ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً}،{ أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين}،{فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذاخوّلناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون}،{لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسّه الشر فيؤوس قنوط ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولنّ هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رُجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنّهم من عذاب غليظ وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسّه الشر فذو دعاء عريض}،{وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور}،{وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين}،{ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}،{إن الإنسان خلق هلوعاً إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً}،{قُتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره}،{يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك في أي صورة ما شاء ركّبك}،{فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن}،{ لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد}،{ كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى}،{ إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد}. لنتدبر جيداً وجيداً جداً، ما ورد في هذه الآيات القرآنية الكريمة من حقائق لا يعجز الواقع الإنساني عن الشهادة لها بأنها الحق الذي ليس وراءه باطل. فهل الإنسان كما نعرفه- وليس كما يريدنا مؤلهوه أن نتوهمه فلا نراه على حقيقته بل كما يتوهمون- هو بهذه الصفات التي فصلتها آيات القرآن العظيم وبما لا يدع مجالاً للشك بأن هذا القرآن هو من عند الله حقاً؟ فلو لم يكن القرآن من عند الله هل كنا لنقع فيه على هذا الخطاب الفاضح لعيوب الإنسان؟ ولو كان هذا القرآن من عند غير الله أما كنا لنجده خالياً من كل ما من شأنه أن يتعارض والنظرة الرومانسية للإنسان؛ هذه النظرة التي لا نجد إلا القرآن العظيم معرضاً عنها كل الإعراض؟! إن هذا التطابق المذهل ما بين حقائق القرآن العظيم والواقع الإنساني كما نعرفه حق المعرفة، لهو برهان لا يقطع إلا بأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلا من عند الله الذي خلق الإنسان ويعلم عنه كل شيء. والآن، إذا كان القرآن العظيم صادق الوصف للإنسان كما يجليه بوجهه الحقيقي واقعه الذي نعرفه، وإذا كان هذا الوصف بهذه الدقة المتناهية التي لم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها في بيان تفصيلي لكامل أوصاف الإنسان، فهل لنا إلا نخرج بنتيجة مؤداها أن هذا القرآن لابد وأن يكون قد تضمن كل ما له أن يجعل الظاهرة الإنسانية تغادر غموضها وإلى الأبد؟ الظاهرة الإنسانية تتجلى إن القرآن العظيم يصف الواقع الإنساني كما لم يتجاسر أحد من بني آدم على وصفه إلا من كان منهم سائراً على الطريق الإلهي، فكيف لا نصدقه ونكذب كل من لا قدرة له على شيء سوى الدعوة إلى تأليه الإنسان على الرغم من هذا الواقع الإنساني البغيض الذي لا حياة للغالبية العظمى من بني آدم إلا خوض حتى الأذنين في نتن ظلماته؟ إن من يملك هذا التشخيص الدقيق للإنسانية بوجهها الحقيقي كما يجليه الواقع الإنساني، وكما لا تبينه الوثيقة الرومانسية التي صاغتها أيادي مؤلهي الإنسان، لابد وأن يكون صادقاً، كل الصدق، في كل ما يقول عن هذا الإنسان كما نعرفه، لذا فإن العودة إلى الماضي الإنساني لن يتم لنا القيام بها ما لم نستغن بهذا القرآن الذي لوحده يملك مفاتح الغيب ولوحده يملك أن يقول لنا كل ما له أن يجعل من الظاهرة الإنسانية تتجلى، أمام أنظارنا، بأبعادها الحقيقية وجذورها الممتدة في عمق الزمان. إن عودةً إلى ماضي إنسان ما برجوعنا إلى طفولته، أو إلى ماض وراثي حتّم عليه وجوب الانطلاق النشوئي منه خروجه من بين صلب وترائب أبوين وأجداد معينين، لن تكفل لنا الخروج من ظلمات الجهالة إلى نور الحقيقة مادام البشر كلهم سواء في واقعهم الإنساني البغيض إلا ما رحم ربي وقليل ما هم، فالعودة الصائبة إلى الماضي هي بالعودة إلى ماضي النوع الإنساني مادام أفراده ملتاثة أدمغتهم إلا قليلاً. إن شيئاً ما لابد وأن يكون وليد ماض فردي يخص هذا الفرد أو ذاك من أفراد الجماعة الإنسانية، بل يخص هذه الجماعة بكامل ملاكها إلا قليلاً، فإذا كان الواقع الإنساني بهذه البشاعة التي لم تغفل عن أحد أفراد النوع الإنساني، إلا قليلاً ممن رحم ربي، فكيف، بربك يكون ماضي كل فرد من أفراد هذا النوع هو المسؤول عن وجهه الإنساني البشع، ما لم يكن هذا الماضي ضارباً بجذوره عميقاً في الزمان امتداداً إلى زمان ابتدائي مشترك تتوحد الإنسانية جمعاء بانبثاقها عنه، وهل لطفولة الإنسان أن تكون على هذه القدرة على تشويه وجهه، إن طفولة النوع الإنساني لا طفولة فرد من أفراده هي الماضي الذي يجب أن نعود إليه بحثاً عن السبب الجماعي في هذه النشأة المريضة لكامل أفراد الجماعة الإنسانية إلا قليلاً. ولكن من يملك أن يعود بنا إلى ذلك الماضي السحيق إن لم يكن هذا القرآن الذي كشف النقاب عن الوجه الحقيقي لكل إنسان، كما بوسع كل إنسان أن يراه لو أنه نظر إلى الواقع الإنساني على ماهو عليه، لا كما يريده مؤلّهو الإنسان. عودة إلى الماضي البعيد لنعد مع القرآن العظيم إلى الماضي البعيد للإنسانية جمعاء، وذلك بتدبرنا لما فصلته آياته البينات عن الذي حدث، فجعل من كل إنسان بهذا الوجه البشع مالم يسارع من فوره إلى القيام بما هو كفيل بجعله يحصل على وجه جديد لا نراه حوالينا كل يوم {وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا أهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}،{ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم انهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين}{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى. فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى. فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى}. إذاً هذا هو الذي حدث فجعل من الإنسانية جمعاء- إلا قليلاً ممن فروا إلى الله- ملتاثة الدماغ. إن القرآن العظيم بهذا الكشف المعرفي المعجز قد بين لنا السبب الحقيقي الذي جعل من كل إنسان انساناً كما نعرفه، فإذا كان القرآن العظيم قد وافق الواقع الإنساني فيما يذهب إليه بخصوص بشاعة الظاهرة الإنسانية، فإنه قد جاءنا بعلم لا قدرة لهذا الواقع، ولا لأي واقع آخر مادام غير إلهي، على أن يأتينا به، لقد عدنا إلى الماضي الجماعي للنوع الإنساني بهذا القرآن وكان لنا أن نقع بوساطته على ما جعل من الإنسان، كل إنسان، إنساناً كما نعرفه. علم نفس جديد ولكن هل لهذا القرآن أن يبين لنا السبيل للعودة إلى المستقبل الذي كان سيكون هو المستقبل لو أننا لم نكن بهذا الماضي؟ نعم لقد بين القرآن العظيم كل ما ينبغي على الإنسان أن يقوم به، إذا ما هو أراد حقاً أن ينجو من الآثار الكارثية التي جرّها ماضيه عليه. فالقرآن العظيم جاءنا بطريقة مثلى للعبادة فصلتها آياته البينات طريقاً وحيداً للنجاة من كل آثار ذلك الماضي الموغل في القدم {قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى}. إلا أن الإنسان لا يريد أن يبذل الجهد فيما ينفع حق النفع مادام الجهد يصب في غير قناة تأليهه لذاته، واتباعه لهوى نفسه المريضة ، إن الإنسان أسير ماضيه هذا لا محالة. وسيبقى الإنسان أسير ذلك الماضي مادام غير راغب في العودة إليه تصحيحاً لما حدث منه فيه يوم أن شارك أباه في أكله من تلك الشجرة، فكل إنسان كان سيحذو حذو أبيه آدم لو أنه كان مكانه، فهل لنا أن نعجب حقاً لنشأتنا المشتركة وانبثاقنا الجماعي عن ذلك الماضي الآدمي. إن الحاضر الإنساني بهذا الواقع المقيت شهادة بأن ماضي الإنسانية لم يكن إلا كما بينه القرآن العظيم وكشف النقاب عنه. فلماذا لا نستعين بهذا القرآن على تأسيس علم نفس جديد يأخذ بنظر الاعتبار هذه الحقائق التي تجلت أمام العين، عله أن يكون علم نفس داعياً إلى الله مادام يريد لنفسه أن يكون الحل العلاجي للمشكلة الإنسانية؟ إن الإنسان مريض مادام واقعه لا يشهد له إلا بأنه ذو عقل ملتاث، فهل لعلم النفس الجديد هذا أن ينقذه من لوثته هذه وذلك بدعوته له الفرار إلى الله؟ إن الإنسانية تعيش عيشاً ضنكاً بشهادة الآية القرآنية الكريمة { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى} وذلك لأنها قد أعرضت عن ذكر الله، لا لشيء آخر، فهل لعلم النفس الجديد أن يكون داعياً إلى الله مادام الفرار إلى الله هو لوحده العلاج الناجع للإنسانية جمعاء؟!