ما زال المقعد الواسع في مكانه يستقبل القادمين الجدد و يودع المسافرين في هذه المحطة الممتدة الاطراف,منذ البدء و المقعد الواسع ذو الزركشات البهية يقوم بدوره بلا كلل او ملل
ينسج من الوقت عباءة كبيرة مرصعة بالنجوم و الكواكب تنثر رائحة الغموض في الاجواء..
دعونا نختبىء قليلا خلف المقعد نسترق السمع و البصر لما يجري في تلك المحطة..
ممسكا كراسة الرسم بكلتا يديه,اقترب من المقعد و جلس عليه يراقب الزمن و هو ينثني مختبا بين تجاعيد يديه , ثم وضع انامله على طرف المقعد و سحب اللون البني ,وضعه على الورقة وتناول من زهرة برية تلتف خلف المقعد لونا احمر و اصفر و اخربنفسجي ونثرها على الورقة بمنتهى الرقة و فجأة مد يده الى الشجرة الكبيرة يداعبها باصابعه.. حتى انثنى غصن ضخم كسر منه قطعة صغيرة تحولت بين يديه الى فرشاة الوان ..و بدا يرسم و يرسم ..و يرسم
الحياة بمعانيها العميقه تعبر عن ذاتها بالالوان,فالاحمر للحب و الثورة , الازرق للصدق , الاخضر للانتماء و الاسود للحزن..و ها هو مشهد المقعد و الشجرة في قلب المحطة المتشحة بألوان الحياة يلبسه كوشاح مكتنز بالعواطف و المشاعر , وما كراسة الالوان الا وسيلة للتعبير و لاعادة تشكيل اللون من جديد ,ان الانسان يحاول ان يستوعب مساحات اللون ليشكل لونه الخاص ضمن مهرجان الالوان في هذه الطبيعة.
اقترب آخر و جلس بجانب الرسام, مد يده الى الغصن الكبير و كسر قطعة صغيرة تحولت بين يديه الى ناي وبدأ يعزف.و فجأة ادركنا ان هنالك عصفورا و سمعنا حفيف الاشجار , لم ننتبه الى غدير رقيق يمشي تحت اقدامنا الا عندما سمعنا خرير الماء,لقد تناول من كل شيء حوله موسيقى وبدا يعزف و يعزف و يعزف
ان كل شيء في هذا الوجود له موسيقاه الخاصة التي تعبر عن ذاتها,فالمقعد الواسع المزركش ينفث موسيقا العصور الوسطى , الاحجار المنهكة حول الطريق مترعة بترانيم قديمة وهناك عصفور يقفز على الاغصان بموسيقى ايرلندية , اوراق الاشجار المائلة تعزف موسيقا باخ في الارجاء ..وما القلب الا اعظم اداة موسيقية في الوجود مستمرة بالعزف الى الابد.
ان الحياة بمعانيها موسيقا تسيل في الروح عواطف و افكارا ,فالشجن هو صوت العود و المراعي الممتدة صوت الناي ,و العشق صوت الكمان,و كل موجود يعبر عما يصدح داخل الانسان..فانا مقطوعة موسيقية ضمن اوركسترا الوجود.
اقترب الثالث و جلس بجانب الموسيقي, مد يده الى الغصن الكبير و كسر قطعة صغيرة تحولت
بين يديه الى قلم , تناول من العصفور الحرية ومن الطريق الطموح ومن المقعد الصبر,من الشجرة الحكمة ومن الغروب الحزن ..و بدا يكتب و يكتب و يكتب
في البدء كانت الكلمة,كان الرجل الثالث يدرك ان الحياة هي كلمات و معان, فالشجرة تعبر عما يدور في فكرها بالاغصان,الزركشات هي افكار المقعد ,السفر لغة القطار و المحطة لغة الانتظار و الانسان في هذا الوجود هوكلمة الله .
لا يملك الكاتب في هذه الدنيا سوى قلم يكتب به من حبر شرايينه لغتة الخاصة في هذا الكتاب الكبير ليكون صفحة باقية و ان طواها الزمن.و مع تنهيدة الشجرة الكبيرة رحل الرسام و الموسيقي و هم الكاتب بالذهاب خلفهما مسرعا كي يركبوا القطار معا,لكن اعيننا قد أسرت ورقة سقطت من خلف الكاتب تتقاذفها الرياح مكتوب على راس الصفحة ( محطة القطار).
و بقي المقعد الواسع يستقبل القادمين بلا ملل او كلل...

شادي عبيدات


تفاصيل الخبر هنا..