معاذ ملحم
02-16-2013, 04:56 PM
العرب وثقافة التسامح .. الفريضة الغائبة!
http://www.aleqt.com/a/404887_109824.jpg
إذا كان التسامح قيمة حضارية وواقعية على المستوى الكوني، فهناك رافعات أساسية لتجسيده، كي يستطيع العالم الخروج من غلواء التعصب والتطرف والإقصاء والتهميش والعنف والإرهاب. ولن يتحقق ذلك دون توفير تربة خصبة لبذر بذوره، وتعميق الوعي الحقوقي والأخلاقي والقانوني والاجتماعي بأهميته، من خلال الإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف والمغايرة والتعايش واحترام الآخر، سواءً كان ذلك على المستوى الفردي أو الجماعي أو على مستوى الحكومات والدول.
إذا كان الغرب قد وصل إلى التسامح في مجتمعاته، بعد معاناة طويلة ومعارك طائفية طاحنة وحروب عالمية حصدت أرواح عشرات الملايين من البشر، فإن مثل هذا الأمر لم يأخذ مداه على المستوى الدولي، وبخاصة محاولات فرض الهيمنة والاستتباع، ولا سيما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية في أواخر الثمانينيات. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة خيضت حروب وأعمال إبادة وفرضت حصارات ومورس العدوان مرات ومرات, وُقلبت أنظمة وأقيمت كيانات، كلّها بعيدة عن روح التسامح، بالاعتماد على نظرية القوة وليس قوة القانون، بعيداً عن روح وجوهر العدالة والمساواة، وذلك بسبب تغليب المصالح الأنانية الضيقة على حساب المشترك الإنساني ومبادئ التسامح!
ومن جهة أخرى, فإن التسامح كمفهوم في العالمين العربي والإسلامي ما زال قليل القبول لدى أوساط واسعة، رغم إقرارنا بأن تعاليم الإسلام سمحة وإنسانية، لكن بعض الاتجاهات الإقصائية والإلغائية ظلّت تنظر إليه على أنّه "نبت شيطاني" أو "فكر مستورد", خصوصا مع خلط المفاهيم تعسفا أحيانا، بالنزعات التغريبية وتصويرها باعتبارها استتباعا واحتذاء بالآخر، الخارجي، الأجنبي، المختلف، الخصم والعدو! والأمر ينسحب على نحو أشد، فيما يتعلق بالنطاق الداخلي، وفي داخل كل بلد عربي أو جماعة سياسية ودينية ومذهبية وإثنية!
ولعل دعاة اللا تسامح الحاليين يهربون إلى التاريخ، ملاذا لهم، بالادعاء أن الإسلام الأول، الراشدي اتسم بالتسامح والاعتراف بحق الاختلاف، وهو وإن كان صحيحاً، لكنهم لا يناقشون الحاضر اللامتسامح الشديد الغلو والإقصاء والتهميش ورفض المشاركة وادعاء الأفضليات، أو يحاولون الانحراف عن كل ما من شأنه الاعتراف بمبادئ التسامح وحق الاختلاف في زمننا الحالي، بزعم أنه بدعة وضلال، وكل بدعة حرام، وأي حديث عكس ذلك من وجهة نظرهم مرفوض ومستغرب، في محاولة تمجيدية للماضي وإنكارا للآخر.
لذلك احتاجَ موضوع التسامح ومفهومه إلى تبيئة وتأصيل تاريخي بهدف جعله راهنا ومستمراً وقائما في عالمنا العربي، وبقراءة الوضع الراهن فهناك ثلاثة مواقف من مسألة التسامح:
الأول، يرفض كل حديث عن التسامح على النطاق الديني أو الفكري أو السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي، الداخلي أو الخارجي (الدولي) بحجة امتلاكه الحقيقة والأفضليات، أما المختلف والآخر فإنه لا يمثل سوى النقيض، وعلى المستوى العالمي فإنه يمثل الكفر والاستكبار. جدير بالذكر أن كلمة " التسامح" لم ترد في القرآن، لكن ورد كثير مما يدلّ عليها، مثل التواصي والتآزر والتعارف والرحمة.. إلخ.
الثاني، تيار إصلاحي (توافقي) يتقبل بعض أفكار التسامح بهدف مواكبة التطور الدولي، لكنه يظل مشدوداً للفكر التقليدي السائد، وإن كان يسعى للتواصل مع الآخر بحذر شديد، خصوصاً في ظل تابوات ومحرّمات كثيرة.
الثالث، التيار المؤيد للتسامح، الذي يعتبره قيمة عليا، ولا سيما بربطه بمنظومة الحقوق، دون التعامل معه على نحو مبتذل فيما يتعلق بالصراع العربي ــ الإسرائيلي والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني. فالتسامح لا يعني التهاون أو التساهل إزاء حقوق الإنسان أو قيم العدالة أو احتلال الأراضي أو العدوان أو تبريرها تحت أية حجة أو ذريعة.
* الهروب إلى الماضي!
الإسلام بتعاليمه لا يجد غضاضة في الجدل والنقاش ونقد الرأي المخالف انطلاقاً من قاعدتين:
1 ــ مبدأ التسامح إزاء سماع الرأي الآخر.
2 ــ الإيمان بالعقل باعتباره الأساس في المحاججة وليس النظرة المسبقة.
ليس ثمة تناقض بين العقل والإيمان، لكن التاريخ الإسلامي شهد فترات سبات للعقل وتغلّب عليه العنف وساد السيف قبل الرأي، لكن لا بدّ لنا من التمييز بين الإسلام كمفاهيم ومبادئ ومعتقدات وتعاليم، وبين التاريخ والممارسات والتطبيقات والتجاوز على المبادئ.
كان إلى جانب الإسلام والإيمان نقيضهما أحياناً في دولة الإسلام المدنية، لكن ثقة الإسلام بنفسه جعلت التعايش ممكناً مع النقيض. حسبي هنا أن أشير إلى احتواء كتاب "التوحيد الكافي" على أقوى الاستدلالات، التي استند إليها منكرو التوحيد دون أن يؤثر ذلك في عرض الرأي الآخر المناقض، المخالف، المعارض، حتى إن احتوى على ما يتعارض مع جوهر الإيمان.
هناك نموذجان للتسامح: الأول معياري والثاني واقعي، فالبعض يقرّ بالاختلاف وبالتالي بالتسامح في المسائل الفرعية، أما البعض الآخر فيذهب أبعد من ذلك حين يقرّ الاختلاف في المسائل العقدية والأصول "فكل مجتهد مصيب في اجتهاده، وإن لم يصب في حكمه" وذهب الإمام الشافعي للقول :"رأيي صواب لكنه يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ لكنه يحتمل الصواب".
وقديماً قيل قد يصيب الناظر وجهاً من وجوه الحقيقية، وهو ما ذهب إليه ابن رشد، ولهذا فإن تباين الاجتهادات واختلاف التفسيرات، إنما يدل على تباين الطرق الموصلة إلى الحقيقة، فطريق الحق ليس واحداً، بل كثير ومتعدد، وهو الأمر الغائب عن واقعنا الحاضر الشديد الالتباس والبعيد عن قيم التسامح.
* الراهن والمستقبل
أعتقد أن جزءًا من مشكلة الراهن والمستقبل، تكمن في المتراكم السلبي والموروث اللامتسامح، الذي تجري محاولات لاجتراره بهدف الحفاظ على سكونية المجتمع وأنظمة الحكم السائدة، التي لا تقبل بالتنوّع والاختلاف والتسامح والديمقراطية، ومثل هذا الأمر يجد صداه داخل المجتمع عبر تيارات متطرفة ومتعصبة تحمل راية الإسلام أو ما نطلق عليه "الإسلام السياسي"، فقسم كبير منه يحاول توظيف تعاليم الإسلام ضد الإسلام ولأغراض سياسية ضيقة، وهو ما نطلق عليه اسم "الإسلاملوجيا"، الذي يقابله في الغرب ويزداد التهويل به، يحرّض على الإسلام ويعاديه ويثير المخاوف منه ما نسميه :الإسلامفوبيا: "الرهاب من الإسلام"، كجزء من الزينوفوبيا "الرهاب من الأجانب"، تلك التي يقابلها في عالمنا العربي والإسلامي الغربفوبيا: العداء لكل ما هو غربي، باعتباره غريباً وكل غريب وأجنبي مريب، وبالتالي يدخل في خانة الخصم أو العدو، وغيرها من التهم والاستعداءات الجاهزة!
يمكن القول إن في الغرب حداثة وثقافة ومستودعا هائلا ولا حدود له من العلوم والتكنولوجيا، إضافة إلى الجمال والعمران والفن والأدب، وقد وقف الغرب الثقافي والإنساني، إلى جانب قضايانا العادلة وفي مقدمتها "حقوق الشعب العربي الفلسطيني". أما الغرب السياسي فتحكمه المصالح ويقوم على فلسفات وأيديولوجيات بعضها عنصرية واستعلائية، وتتعاكس مع مصالحنا وأهدافنا، خصوصاً مواقفه وممارساته السلبية والضارة إزاء قضايانا العادلة، ولا سيما القضية العربية المركزية "فلسطين".
العرب والمسلمون ليسوا أبالسة أو شياطين، أو كلهم تنظيمات القاعدة، كما يفكرّ ويتعامل بعض المسؤولين في الغرب، كما أن الغرب ليس كله استكبارا وهيمنة واحتلالا وعدوانا، ففيه قيم ثقافية وإنسانية وجمالية ومجتمع مدني، كان سبّاقاً، بل أكثر من مجتمعاتنا في الاحتجاج على شن الحرب على العراق واحتلاله وكذلك في التضامن مع الشعبين الفلسطيني واللبناني.
إن النظرة الشمولية الاستباقية المتطرفة الوحيدة الجانب لدى الغرب وردود أفعال إزاءها أحيانا، تشكل نقيضا للاعتدال والوسطية، خصوصا في العلاقة مع الآخر، والأكثر من ذلك هي نقيض للواقع والعقل، سواءً صدرت عبر تصوّر مسبق من الغرب السياسي ولأهداف سياسية محددة، أو صدرت من بعض الجماعات الإسلاموية أو المتعصبة، التي تستند إلى التعميم، وهو الصخرة التي يتكئ عليها المتعبون، أو الذين لا يريدون استخدام العقل!
* الإسلام والواقعية!
وفيما يخصّنا كعرب أعتقد أنه لا يمكن للإسلام كدين أن يتقدم وأن يتفاعل مع الحضارة الكونية، إنْ لم يأخذ قسطه من التسامح، بمعنى الاعتراف بالآخر، والبحث عن حلول وسط يمكن قبولها بما لا يبتعد عن مبادئ العدالة والحق، هكذا يصبح المشترك والتعايش وقبول الآخر أساساً وليس إلغاؤه أو إقصاؤه أو تهميشه!
إنّ استعراض حلقات مضيئة في التاريخ الإسلامي أمرٌ يمكن البناء عليه، إضافة إلى القرآن والسنة، مثل: حلف الفضول، الذي أنصف المظلوم (وهو من أحلاف الجاهلية، الذي أبقى عليه النبي محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ بعد الإسلام)، ودستور المدينة الذي اعترف بالآخر ومنحه الحقوق (قبل أكثر من 1400 سنة)، وصلح الحديبية مع المشركين، والعهدة العمرية التي منحها عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ عام 15 هـ المسيحيين والبطريرك صفيرنيوس عند فتح القدس، ووثيقة فتح القسطنطينية، التي اعترفت بحقوق الآخر (المسيحي) ودينه وممتلكاته وطقوسه وشعائره وغير ذلك، لكن الأصح في تقديري هو نقد التجربة ومراجعة بعض جوانبها الفكرية وبخاصة السلبي منها، ولا بد من أخذ السياق التاريخي في الاعتبار بهدف استشراف المستقبل وبحثاً عن المشترك الإنساني والتواصل الحضاري والتفاعل الثقافي.
يعتبر البعض أن نشر أي كلام ينتقد أوضاعنا العربية غير المتسامحة، ويتناول بعض السلبيات سيستفيد منه العدو، تحت مبرر "عدم نشر الغسيل الوسخ"، ولكيلا نسيء إلى صورتنا أمام الآخرين، وينسى هؤلاء "المبشرون" إن إخفاء المرض لا يشعر المرء بالطمأنينة على صحته ولا يعيد له العافية، كما أن التغلّب على العدو يحتاج إلى تشخيص لنقاط ضعفنا والتخلص من بعض النزعات العنصرية إزاء الآخر في دواخلنا، وقراءة واقعنا موضوعياً بروح النقد والنقد الذاتي والحوار المتواصل والاعتراف بحقوق الأقليات وبالهويات المتعددة، وعدم تجميل صورتنا أمام أنفسنا، خصوصاً إذا كانت صورة البعض كالحة أو معتمة.
وقد آن الأوان للإقرار بأننا لا نعرف التسامح فيما بيننا لا على المستوى الجماعي أو الفردي، سواءً من جانب جهات أو جماعات أو منظمات ثقافية وفكرية أو أحزاب سياسية أو علاقات فردية، بل إننا أكثر خصومة لبعضنا فيما بيننا في التيار الواحد والحزب الواحد والمجموعة الواحدة والقومية الواحدة والدين الواحد والطائفة الواحدة أحياناً، رغم القيم الإنسانية التي تمثلها التعاليم الإسلامية السمحة. وقد شهدنا تصفيات واحترابات وعزلا وإقصاء ومحاولات محو آثار وتأثيرات لأسباب تتعلق بعدم التسامح، وفرض الرأي وتهميش وتغييب الآخر.
وقد استشرى الفكر المتعصب في قراءة خاطئة للنص الديني، ولا سيما للجماعات الإسلاموية، وفي مواجهة أحياناً للفكر والسياسة الغربية الإرهابية التي تحاول التسيّد والهمينة وإملاء الإرادة. لعل خير مدخل لمناقشة هذا الموضوع هو الحوار على أساس حكمة النبي محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ "وما أنا إلاّ رحمة مهداة" وكما ورد في القرآن الكريم، سورة الأنبياء ــ 107 "وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين"، وأن هذه الحكمة يمكن أن تنسحب على الجميع، فالرحمة تعني قبول الآخر والتسامح والعفو والعلاقة الحرة المتكافئة بين الأمم والقوميات والشعوب صغيرها وكبيرها وبين الأفراد كذوات وأشخاص. فالإنسان هو القيمة العليا وحقه في التعبير والتفكير حق مقدس ولا يمكن الانتقاص منه.
لعل الآية القرآنية "... وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" تجسّد معنى التواصل والحوار والمشترك الإنساني، ومثل هذه الجذور هي عنصر قوة وحضارة ومدنية للقيم الإنسانية المتوالدة والمتخالقة، بغض النظر عن الدين أو القومية أو اللغة أو الوطن، لأنها قيم كونية، ولا يجمعها جامع مع الفكر السلفي الذي يريد العودة إلى الوراء، فالجذور لا تعني التشبث بالماضي، بقدر ما تعني الانطلاق إلى المستقبل والتواصل مع روح العصر والتقدم. ولعل الرافعات التي أشرنا إليها لتعزيز التسامح تتعلق بتوفير فضاء مناسب تشريعيا وقانونيا وتعليميا وتربويا وقضائيا وإعلاميا، ومنظمات غير حكومية (مدنية).
وبعد كل ذلك فالتسامح، حسبما ورد في الإعلان الصادر عن "يونسكو" عام 1995 يعني: الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية، وهو يتعزز بالمعرفة والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد، وإنه يمثّل الوئام في سياق الاختلاف. والتسامح، لم يعد واجبا أخلاقيا فحسب، بل أصبح واجبا سياسيا وقانونيا، لإرساء وتعزيز قيم السلام ونبذ الحروب، ولا سيما في البلدان المتقدمة.
ومن الجهة الأخرى وبعيداً عن بعض التفسيرات والتأويلات الضيقة، فالتسامح لا يعني المساومة أو التساهل إزء انتهاك الحقوق والحريات، كما تذهب إلى ذلك بعض الأفكار الدارجة والسطحية، بقدر ما هو اتخاذ موقف إيجابي للإقرار بحقوق الآخرين للتمتع بجميع حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ولا يمكن تحت أي مبرر، بما فيها مبررات التسامح، المساس بقيم التسامح سواءً على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الحكومات.
إن عدم وجود قوانين وأنظمة راعية للتسامح ورادعة لمن يخالفه وغياب منظومة تعليمية وتربوية متسامحة، وعدم استقلالية القضاء ومهنيته وضعف أجواء الحريات التي تشجع الإعلام على نشر قيم التسامح دون تكفير أو تأثيم أو تحريم، وعدم وجود مجتمع مدني حر وسليم، يتحوّل إلى قوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، سيؤدي إلى تفقيس بيوض اللاتسامح ويقود إلى احتدامات وصراعات وأعمال عنف وإرهاب، فحتى لو سلّمنا بقيمة التسامح فسيكون فريضة غائبة.
Melhem
http://www.aleqt.com/a/404887_109824.jpg
إذا كان التسامح قيمة حضارية وواقعية على المستوى الكوني، فهناك رافعات أساسية لتجسيده، كي يستطيع العالم الخروج من غلواء التعصب والتطرف والإقصاء والتهميش والعنف والإرهاب. ولن يتحقق ذلك دون توفير تربة خصبة لبذر بذوره، وتعميق الوعي الحقوقي والأخلاقي والقانوني والاجتماعي بأهميته، من خلال الإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف والمغايرة والتعايش واحترام الآخر، سواءً كان ذلك على المستوى الفردي أو الجماعي أو على مستوى الحكومات والدول.
إذا كان الغرب قد وصل إلى التسامح في مجتمعاته، بعد معاناة طويلة ومعارك طائفية طاحنة وحروب عالمية حصدت أرواح عشرات الملايين من البشر، فإن مثل هذا الأمر لم يأخذ مداه على المستوى الدولي، وبخاصة محاولات فرض الهيمنة والاستتباع، ولا سيما بعد انهيار الكتلة الاشتراكية في أواخر الثمانينيات. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة خيضت حروب وأعمال إبادة وفرضت حصارات ومورس العدوان مرات ومرات, وُقلبت أنظمة وأقيمت كيانات، كلّها بعيدة عن روح التسامح، بالاعتماد على نظرية القوة وليس قوة القانون، بعيداً عن روح وجوهر العدالة والمساواة، وذلك بسبب تغليب المصالح الأنانية الضيقة على حساب المشترك الإنساني ومبادئ التسامح!
ومن جهة أخرى, فإن التسامح كمفهوم في العالمين العربي والإسلامي ما زال قليل القبول لدى أوساط واسعة، رغم إقرارنا بأن تعاليم الإسلام سمحة وإنسانية، لكن بعض الاتجاهات الإقصائية والإلغائية ظلّت تنظر إليه على أنّه "نبت شيطاني" أو "فكر مستورد", خصوصا مع خلط المفاهيم تعسفا أحيانا، بالنزعات التغريبية وتصويرها باعتبارها استتباعا واحتذاء بالآخر، الخارجي، الأجنبي، المختلف، الخصم والعدو! والأمر ينسحب على نحو أشد، فيما يتعلق بالنطاق الداخلي، وفي داخل كل بلد عربي أو جماعة سياسية ودينية ومذهبية وإثنية!
ولعل دعاة اللا تسامح الحاليين يهربون إلى التاريخ، ملاذا لهم، بالادعاء أن الإسلام الأول، الراشدي اتسم بالتسامح والاعتراف بحق الاختلاف، وهو وإن كان صحيحاً، لكنهم لا يناقشون الحاضر اللامتسامح الشديد الغلو والإقصاء والتهميش ورفض المشاركة وادعاء الأفضليات، أو يحاولون الانحراف عن كل ما من شأنه الاعتراف بمبادئ التسامح وحق الاختلاف في زمننا الحالي، بزعم أنه بدعة وضلال، وكل بدعة حرام، وأي حديث عكس ذلك من وجهة نظرهم مرفوض ومستغرب، في محاولة تمجيدية للماضي وإنكارا للآخر.
لذلك احتاجَ موضوع التسامح ومفهومه إلى تبيئة وتأصيل تاريخي بهدف جعله راهنا ومستمراً وقائما في عالمنا العربي، وبقراءة الوضع الراهن فهناك ثلاثة مواقف من مسألة التسامح:
الأول، يرفض كل حديث عن التسامح على النطاق الديني أو الفكري أو السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي، الداخلي أو الخارجي (الدولي) بحجة امتلاكه الحقيقة والأفضليات، أما المختلف والآخر فإنه لا يمثل سوى النقيض، وعلى المستوى العالمي فإنه يمثل الكفر والاستكبار. جدير بالذكر أن كلمة " التسامح" لم ترد في القرآن، لكن ورد كثير مما يدلّ عليها، مثل التواصي والتآزر والتعارف والرحمة.. إلخ.
الثاني، تيار إصلاحي (توافقي) يتقبل بعض أفكار التسامح بهدف مواكبة التطور الدولي، لكنه يظل مشدوداً للفكر التقليدي السائد، وإن كان يسعى للتواصل مع الآخر بحذر شديد، خصوصاً في ظل تابوات ومحرّمات كثيرة.
الثالث، التيار المؤيد للتسامح، الذي يعتبره قيمة عليا، ولا سيما بربطه بمنظومة الحقوق، دون التعامل معه على نحو مبتذل فيما يتعلق بالصراع العربي ــ الإسرائيلي والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني. فالتسامح لا يعني التهاون أو التساهل إزاء حقوق الإنسان أو قيم العدالة أو احتلال الأراضي أو العدوان أو تبريرها تحت أية حجة أو ذريعة.
* الهروب إلى الماضي!
الإسلام بتعاليمه لا يجد غضاضة في الجدل والنقاش ونقد الرأي المخالف انطلاقاً من قاعدتين:
1 ــ مبدأ التسامح إزاء سماع الرأي الآخر.
2 ــ الإيمان بالعقل باعتباره الأساس في المحاججة وليس النظرة المسبقة.
ليس ثمة تناقض بين العقل والإيمان، لكن التاريخ الإسلامي شهد فترات سبات للعقل وتغلّب عليه العنف وساد السيف قبل الرأي، لكن لا بدّ لنا من التمييز بين الإسلام كمفاهيم ومبادئ ومعتقدات وتعاليم، وبين التاريخ والممارسات والتطبيقات والتجاوز على المبادئ.
كان إلى جانب الإسلام والإيمان نقيضهما أحياناً في دولة الإسلام المدنية، لكن ثقة الإسلام بنفسه جعلت التعايش ممكناً مع النقيض. حسبي هنا أن أشير إلى احتواء كتاب "التوحيد الكافي" على أقوى الاستدلالات، التي استند إليها منكرو التوحيد دون أن يؤثر ذلك في عرض الرأي الآخر المناقض، المخالف، المعارض، حتى إن احتوى على ما يتعارض مع جوهر الإيمان.
هناك نموذجان للتسامح: الأول معياري والثاني واقعي، فالبعض يقرّ بالاختلاف وبالتالي بالتسامح في المسائل الفرعية، أما البعض الآخر فيذهب أبعد من ذلك حين يقرّ الاختلاف في المسائل العقدية والأصول "فكل مجتهد مصيب في اجتهاده، وإن لم يصب في حكمه" وذهب الإمام الشافعي للقول :"رأيي صواب لكنه يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ لكنه يحتمل الصواب".
وقديماً قيل قد يصيب الناظر وجهاً من وجوه الحقيقية، وهو ما ذهب إليه ابن رشد، ولهذا فإن تباين الاجتهادات واختلاف التفسيرات، إنما يدل على تباين الطرق الموصلة إلى الحقيقة، فطريق الحق ليس واحداً، بل كثير ومتعدد، وهو الأمر الغائب عن واقعنا الحاضر الشديد الالتباس والبعيد عن قيم التسامح.
* الراهن والمستقبل
أعتقد أن جزءًا من مشكلة الراهن والمستقبل، تكمن في المتراكم السلبي والموروث اللامتسامح، الذي تجري محاولات لاجتراره بهدف الحفاظ على سكونية المجتمع وأنظمة الحكم السائدة، التي لا تقبل بالتنوّع والاختلاف والتسامح والديمقراطية، ومثل هذا الأمر يجد صداه داخل المجتمع عبر تيارات متطرفة ومتعصبة تحمل راية الإسلام أو ما نطلق عليه "الإسلام السياسي"، فقسم كبير منه يحاول توظيف تعاليم الإسلام ضد الإسلام ولأغراض سياسية ضيقة، وهو ما نطلق عليه اسم "الإسلاملوجيا"، الذي يقابله في الغرب ويزداد التهويل به، يحرّض على الإسلام ويعاديه ويثير المخاوف منه ما نسميه :الإسلامفوبيا: "الرهاب من الإسلام"، كجزء من الزينوفوبيا "الرهاب من الأجانب"، تلك التي يقابلها في عالمنا العربي والإسلامي الغربفوبيا: العداء لكل ما هو غربي، باعتباره غريباً وكل غريب وأجنبي مريب، وبالتالي يدخل في خانة الخصم أو العدو، وغيرها من التهم والاستعداءات الجاهزة!
يمكن القول إن في الغرب حداثة وثقافة ومستودعا هائلا ولا حدود له من العلوم والتكنولوجيا، إضافة إلى الجمال والعمران والفن والأدب، وقد وقف الغرب الثقافي والإنساني، إلى جانب قضايانا العادلة وفي مقدمتها "حقوق الشعب العربي الفلسطيني". أما الغرب السياسي فتحكمه المصالح ويقوم على فلسفات وأيديولوجيات بعضها عنصرية واستعلائية، وتتعاكس مع مصالحنا وأهدافنا، خصوصاً مواقفه وممارساته السلبية والضارة إزاء قضايانا العادلة، ولا سيما القضية العربية المركزية "فلسطين".
العرب والمسلمون ليسوا أبالسة أو شياطين، أو كلهم تنظيمات القاعدة، كما يفكرّ ويتعامل بعض المسؤولين في الغرب، كما أن الغرب ليس كله استكبارا وهيمنة واحتلالا وعدوانا، ففيه قيم ثقافية وإنسانية وجمالية ومجتمع مدني، كان سبّاقاً، بل أكثر من مجتمعاتنا في الاحتجاج على شن الحرب على العراق واحتلاله وكذلك في التضامن مع الشعبين الفلسطيني واللبناني.
إن النظرة الشمولية الاستباقية المتطرفة الوحيدة الجانب لدى الغرب وردود أفعال إزاءها أحيانا، تشكل نقيضا للاعتدال والوسطية، خصوصا في العلاقة مع الآخر، والأكثر من ذلك هي نقيض للواقع والعقل، سواءً صدرت عبر تصوّر مسبق من الغرب السياسي ولأهداف سياسية محددة، أو صدرت من بعض الجماعات الإسلاموية أو المتعصبة، التي تستند إلى التعميم، وهو الصخرة التي يتكئ عليها المتعبون، أو الذين لا يريدون استخدام العقل!
* الإسلام والواقعية!
وفيما يخصّنا كعرب أعتقد أنه لا يمكن للإسلام كدين أن يتقدم وأن يتفاعل مع الحضارة الكونية، إنْ لم يأخذ قسطه من التسامح، بمعنى الاعتراف بالآخر، والبحث عن حلول وسط يمكن قبولها بما لا يبتعد عن مبادئ العدالة والحق، هكذا يصبح المشترك والتعايش وقبول الآخر أساساً وليس إلغاؤه أو إقصاؤه أو تهميشه!
إنّ استعراض حلقات مضيئة في التاريخ الإسلامي أمرٌ يمكن البناء عليه، إضافة إلى القرآن والسنة، مثل: حلف الفضول، الذي أنصف المظلوم (وهو من أحلاف الجاهلية، الذي أبقى عليه النبي محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ بعد الإسلام)، ودستور المدينة الذي اعترف بالآخر ومنحه الحقوق (قبل أكثر من 1400 سنة)، وصلح الحديبية مع المشركين، والعهدة العمرية التي منحها عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ عام 15 هـ المسيحيين والبطريرك صفيرنيوس عند فتح القدس، ووثيقة فتح القسطنطينية، التي اعترفت بحقوق الآخر (المسيحي) ودينه وممتلكاته وطقوسه وشعائره وغير ذلك، لكن الأصح في تقديري هو نقد التجربة ومراجعة بعض جوانبها الفكرية وبخاصة السلبي منها، ولا بد من أخذ السياق التاريخي في الاعتبار بهدف استشراف المستقبل وبحثاً عن المشترك الإنساني والتواصل الحضاري والتفاعل الثقافي.
يعتبر البعض أن نشر أي كلام ينتقد أوضاعنا العربية غير المتسامحة، ويتناول بعض السلبيات سيستفيد منه العدو، تحت مبرر "عدم نشر الغسيل الوسخ"، ولكيلا نسيء إلى صورتنا أمام الآخرين، وينسى هؤلاء "المبشرون" إن إخفاء المرض لا يشعر المرء بالطمأنينة على صحته ولا يعيد له العافية، كما أن التغلّب على العدو يحتاج إلى تشخيص لنقاط ضعفنا والتخلص من بعض النزعات العنصرية إزاء الآخر في دواخلنا، وقراءة واقعنا موضوعياً بروح النقد والنقد الذاتي والحوار المتواصل والاعتراف بحقوق الأقليات وبالهويات المتعددة، وعدم تجميل صورتنا أمام أنفسنا، خصوصاً إذا كانت صورة البعض كالحة أو معتمة.
وقد آن الأوان للإقرار بأننا لا نعرف التسامح فيما بيننا لا على المستوى الجماعي أو الفردي، سواءً من جانب جهات أو جماعات أو منظمات ثقافية وفكرية أو أحزاب سياسية أو علاقات فردية، بل إننا أكثر خصومة لبعضنا فيما بيننا في التيار الواحد والحزب الواحد والمجموعة الواحدة والقومية الواحدة والدين الواحد والطائفة الواحدة أحياناً، رغم القيم الإنسانية التي تمثلها التعاليم الإسلامية السمحة. وقد شهدنا تصفيات واحترابات وعزلا وإقصاء ومحاولات محو آثار وتأثيرات لأسباب تتعلق بعدم التسامح، وفرض الرأي وتهميش وتغييب الآخر.
وقد استشرى الفكر المتعصب في قراءة خاطئة للنص الديني، ولا سيما للجماعات الإسلاموية، وفي مواجهة أحياناً للفكر والسياسة الغربية الإرهابية التي تحاول التسيّد والهمينة وإملاء الإرادة. لعل خير مدخل لمناقشة هذا الموضوع هو الحوار على أساس حكمة النبي محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ "وما أنا إلاّ رحمة مهداة" وكما ورد في القرآن الكريم، سورة الأنبياء ــ 107 "وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين"، وأن هذه الحكمة يمكن أن تنسحب على الجميع، فالرحمة تعني قبول الآخر والتسامح والعفو والعلاقة الحرة المتكافئة بين الأمم والقوميات والشعوب صغيرها وكبيرها وبين الأفراد كذوات وأشخاص. فالإنسان هو القيمة العليا وحقه في التعبير والتفكير حق مقدس ولا يمكن الانتقاص منه.
لعل الآية القرآنية "... وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" تجسّد معنى التواصل والحوار والمشترك الإنساني، ومثل هذه الجذور هي عنصر قوة وحضارة ومدنية للقيم الإنسانية المتوالدة والمتخالقة، بغض النظر عن الدين أو القومية أو اللغة أو الوطن، لأنها قيم كونية، ولا يجمعها جامع مع الفكر السلفي الذي يريد العودة إلى الوراء، فالجذور لا تعني التشبث بالماضي، بقدر ما تعني الانطلاق إلى المستقبل والتواصل مع روح العصر والتقدم. ولعل الرافعات التي أشرنا إليها لتعزيز التسامح تتعلق بتوفير فضاء مناسب تشريعيا وقانونيا وتعليميا وتربويا وقضائيا وإعلاميا، ومنظمات غير حكومية (مدنية).
وبعد كل ذلك فالتسامح، حسبما ورد في الإعلان الصادر عن "يونسكو" عام 1995 يعني: الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية، وهو يتعزز بالمعرفة والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد، وإنه يمثّل الوئام في سياق الاختلاف. والتسامح، لم يعد واجبا أخلاقيا فحسب، بل أصبح واجبا سياسيا وقانونيا، لإرساء وتعزيز قيم السلام ونبذ الحروب، ولا سيما في البلدان المتقدمة.
ومن الجهة الأخرى وبعيداً عن بعض التفسيرات والتأويلات الضيقة، فالتسامح لا يعني المساومة أو التساهل إزء انتهاك الحقوق والحريات، كما تذهب إلى ذلك بعض الأفكار الدارجة والسطحية، بقدر ما هو اتخاذ موقف إيجابي للإقرار بحقوق الآخرين للتمتع بجميع حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ولا يمكن تحت أي مبرر، بما فيها مبررات التسامح، المساس بقيم التسامح سواءً على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الحكومات.
إن عدم وجود قوانين وأنظمة راعية للتسامح ورادعة لمن يخالفه وغياب منظومة تعليمية وتربوية متسامحة، وعدم استقلالية القضاء ومهنيته وضعف أجواء الحريات التي تشجع الإعلام على نشر قيم التسامح دون تكفير أو تأثيم أو تحريم، وعدم وجود مجتمع مدني حر وسليم، يتحوّل إلى قوة اقتراح وليس قوة احتجاج فحسب، سيؤدي إلى تفقيس بيوض اللاتسامح ويقود إلى احتدامات وصراعات وأعمال عنف وإرهاب، فحتى لو سلّمنا بقيمة التسامح فسيكون فريضة غائبة.
Melhem