كيف تكسب رضا الله؟

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
حوار أجراه ا / عصام غازي مع الأستاذ عمرو خالد لمجلة كل الناس بتاريخ 9 - 15 نوفمبر 2005

الإبحار في السيرة العطرة للرسول الكريم يكشف الكثير من الجوانب المشرقة لإنسانيته وحكمته ورحمته.

الداعية عمرو خالد يؤكد أن النبي كان رحمة للعالمين وليس للمسلمين فقط وهو بذلك قدوة لنا خاصة في هذه الأيام التي تحتاج إلى أن نتعامل مع الآخرين بإنسانية ورحمة بعيداً عن مشاعر الكراهية أو العداء.

عمرو خالد يؤكد أيضا أننا اليوم في حاجة إلى جيل لا يضع كل اهتمامه في المال والسلطة والأضواء بل يعيش للإصلاح ويبتغي فقط مرضاة الله.

أحزان الرسول

في البداية يستعرض عمرو خالد إحدى صفحات المعاناة في حياة الرسول الكريم والحكمة الإلهية منه: فيقول: عاش الرسول صلى الله عليه وسلم – 25 سنة – مع السيدة خديجة في حالة حب مستمرة، ولم يعكر صفوه إلا فقد الولدين ليتعلم الرسول مرة بعد أخرى أن الحياة لا تساوي شيئاً وأن الحياة قصيرة وأن عليه أن يعيش فقط من أجل الرسالة.

يموت القاسم ويموت عبد الله، الأول وعمره ثلاث سنوات، والثاني وعمره 4 سنوات.

وهذا العمر هو أحب عمر للأبناء عند الأب والأم.

ما الحكمة الإلهية من ذلك؟

أن يترسخ في ذهن الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحياة لا تساوي شيئاً.

والذين ماتوا خلال حياة الرسول من الأحباب كثر. الأب والأم والجد والابن الأول والابن الثاني، خمس حالات فقد خلال 35 عاما.

كأن الله سبحانه يريد أن يقول له: يا رسول الله: اعلم أن الدنيا زائلة.

لهذا وقف يقول لعمه: والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله، أو أموت في سبيله.

والله لا أعلم أن عظيماً من عظماء الأرض منذ خلق آدم يستطيع أن ينطق بمثل هذا القول.

وفاة الولدين أكدت ورسخت هذا المعنى عند النبي، أن الدنيا زائلة، فلنعش للرسالة. و"لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة".

فلماذا لا نعيش للرسالة والنهضة وإصلاح الأرض؟ بدلاً من أن تعيشوا لأنفسكم ولأولادكم؟ يا بني آدم انس الأضواء والشهرة والثروة والوجاهة وكرسي السلطة، وعش لله لتكسب رضاه، عش للفكرة، عش للإصلاح، نحن بحاجة إلى جيل جديد يفهم ذلك ويعمل به.

وهناك معنى آخر في موت أولاد النبي، أن كل شخص في الأمة لابد أن يكون له نصيب من الحب لرسول الله.

بم نعزي أي أب وأي أم فقدا ولدهما؟

أقول لهما: لقد مات للنبي ابنه القاسم، ثم مات له عبد الله بعد ذلك، فلا تحزن وتوكل على الله. الله سبحانه "ربما منعك ليعطيك".

هو يأخذ منك ليعطيك شيئاً أعظم.

والذي أُخذ ولده صغيراً، فإنه يُكتب من أهل الجنة، ربما لو كبر ما كان قد دخل الجنة لعصيانه.

ولصبر هذا الأب وهذه الأم، يصبحان مع ابنهما جيران النبي في الجنة.

إنسانية محمد

هل كان النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين أم رحمة للعالمين؟

كان النبي رحمة للعالمين. وكان لابد من رؤية تجربة شخصية، فرسول الله رحمة للأرض كلها، وكان لابد أن يظهر محمد الإنسان المحب للإنسان.

لماذا لم يحدث ذلك بعد البعثة وحدث قبل البعثة؟

لإظهار إنسانية الرسول، ولو ظهرت إنسانية الرسول بعد البعثة فستكون لأتباعه، لكن الله أراده رحمة للعالمين وليس للمؤمنين فقط.

كان لابد من ظهور تجربة إنسانية يتأثر بها الرسول نفسه ثم يتأثر بها المحيطون، ثم نأتي نحن بعد 1400 سنه لنحكيها.

أقول هذا للشباب المتدين الذي يظن أن إنسانيته لا يجب أن يوجهها إلا للمسلمين فقط، أما غير المسلمين فلا يتعامل معهم بإنسانية، الإنسانية مبدأ مطلق.

والقرآن مثلما يقول "يا أيها الذين آمنوا" يقول "يا أيها الناس".. ويخاطبهم بمصالح الناس: "جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا".

هذا التدين الذي ينظر للآخر على أنه عدوه، ولا ينظر نظرة إنسانية كالتي ينظرها للمسلم يؤدي إلى صدام الحضارات.

ابني.. زيد بن حارثة

هل تروي لنا مثالاً لإنسانية النبي من السيرة العطرة؟

كان النبي عمره 30 سنة.. وكانت هناك امرأة اسمها سعده بنت ثعلبة، أخذت ابنها الصغير الذي عمره ثماني سنوات، وخرجت به من قريتها إلى قرية أخرى.

كان ابنها اسمه "زيد بن حارثة". في الطريق أغارت عليها قبيلة من القبائل، فخُطف الولد من أحضان أمه، وتم بيعه عبداً في سوق عكاظ، فيشتريه رجل اسمه حكيم بن حزام بن خويلد، فتصبح عمته السيدة خديجة بنت خويلد، يُشترى بـ4 ألاف درهم ويهديه حكيم لأخته السيدة خديجة. فتقوم السيدة خديجة بإهدائه لمحمد صلى الله عليه وسلم.

كان العبد زيد يبكي فراق أبيه وأمه، وهو لا يدري أنه سيُهدي للنبي محمد "ربما منعك ليعطيك".

يقيم زيد عند النبي ويعيش حياته كعبد في بيت سيده، بينما أبوه وأمه يبحثان عنه في كل مكان ويكتب أبوه عنه شعراً، وكان الشعر هو وسيلة الإعلام الأولى عند العرب، يتأوه وهو يتساءل عن ابنه: هل لا يزال حياً أم أنه مات، كلما طلعت الشمس أتذكره.

ويعلم حارثة أن ابنه موجود عند رجل اسمه محمد في مكة. قال له ذلك أناس كانوا في رحلة الحج إلى مكة وشاهدوا زيداً هناك وعلم أن محمداً هو حفيد عبد المطلب سيد قريش، فيبدأ حارثة في جمع المال واقتراضه لتحرير رقبة ابنه.

ويذهب حارثة وزوجته وعمه إلى مكة ويدخل على الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول له: يا محمد جئناك في الغلام الذي عندك. قال صلى الله عليه وسلم: من؟ قالوا: زيد بن حارثة قال: وماذاك؟.. قالوا: إنكم بنو عبد المطلب تفكون العاني وتطعمون الجائع وقد جمعنا لك من المال أعظم مما يستحق ابننا لكي نفديه.

ولم يكن محمد رسولاً في ذلك الوقت، لكنه كان إنساناً، فقال لهم النبي: فهل لكم في خير من ذلك؟ قالوا: خير من الفداء؟ أو ما ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بدلاً من الفداء نخيره فإن اختاركم فهو لكم بغير مال وإن اختارني فما أنا بالذي يرغب عمن اختاره.

وكان النبي قد أحس أن زيداً تعلق به كثيرا فكانت الإنسانية أن يخيره، وليس أن يأمره بمغادرته والعودة مع أهله.

فوقف زيد، ووقف أبوه وأمه وعمه ووقف النبي صلى الله عليه وسلم: وقالوا للنبي: أنصفت؟ فقال النبي لزيد: أتعرف هذين؟

قال: نعم هذا أبي وعمي، وأخذهما بالأحضان والدموع.

فقال النبي: يا زيد إني أخيرك بين أن تذهب مع أبيك وعمك، وبين أن تبقى معي.

فقال زيد بلا تردد: لا أكون مع أحد غيرك وأتركك أبداً، بل أبقى معك ما حييت، فقال أبوه وعمه: يا زيد ويحك، أتختار العبودية على أبيك وعمك.

فقال: لقد رأيت من هذا الرجل شيئاً من الرحمة لا يعدل الدنيا، بما فيها في عيني.

ولم يكن النبي قد صار نبياً، ولا عرض عليه الإسلام.

القصة هنا ليست قصة الإسلام، لكنها قصة إنسانية الرسول صلى الله عليه وسلم.

فأخذ النبي بيده، وقال: تعال معي يا زيد. وذهب به إلى الحرم المكي، ورفع يده أمام قريش وقال: يا معشر قريش من اليوم زيد ابني.. وهو زيد بن محمد، أرثه إن مات ويرثني إن مت.

الإنسانية صفة عامة تدل على رحمة القلب.

حكمة النبي

هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتلك مهارات إدارية كقائد وزعيم؟

اسمع هذه القصة: قريش قررت إعادة بناء الكعبة بسبب حدوث سيل أدى إلى تهاوي أجزاء من بنية الكعبة، وكان لابد من هدم الكعبة لإعادة بنائها، لكنهم خافوا أن يهدموها فيهلكوا كما هلك أبرهة.

وجاء الوليد بن المغيرة وقال: نحن نهدمها بنية بنائها وهذا خير، ثم تقدمهم وأمسك بالمعول وقال: "اللهم إنك تعلم أننا نفعلها للخير لا للشر".

ويضرب الوليد بن المغيرة أول معول، فيفر الناس خوفاً من العقاب إلى بيوتهم.

في صباح اليوم التالي، وجد الناس أن شيئاً لم يحدث، فأكملوا الهدم وقالوا لأنفسهم: "إياكم أن تضعوا درهماً من حرام في الكعبة لا يقبل الله إلا طيباً.. وفطرة معرفة الحلال من الحرام في المخلوقات كلها".

يقول النبي الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به". المال الحرام ليس فقط في الرشوة والسرقة، المال الحرام الآن مثلاً في حقوق الملكية الفكرية فسرقة حقوق الملكية الفكرية لا تؤدي إلى نهضة.

إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا

كانت قبائل قريش تنظر إلى بناء الكعبة على أنها تشريف لها، وكل قبيلة أخذت ركناً للبناء، قبيلة بني عدى أخذت الركن اليماني، وقريش أخذت واجهة الكعبة، وهكذا بنيت الكعبة، وبقى إعادة الحجر الأسود إلى موضعه.

تناحرت القبائل على وضعه، ووصل الأمر إلى نية إعلان الحرب، وجاء بنو عدى ووضعوا إناء به دماء. غمسوا أيديهم فيه، ثلاثة أيام والقبائل تتصارع على وضع الحجر الأسود في موضعه بالكعبة، وكاد الأمر ينتهي بمعركة.

قال الوليد بن المغيرة: ما رأيكم في تحكيم أول رجل يعبر من هذا الباب؟

فقالوا: ارتضينا ما قلت.

وانتظروا من سيدخل من الباب.

ويدخل النبي صلى الله عليه وسلم من الباب فهللت القبائل وقالوا: الأمين ارتضيناه. الأمين ارتضيناه، ولهذا قال القرآن: "فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون".

وهنا تبرز مهارة النبي في إدارة الأزمات، إداري وقائد عظيم يمتلك سرعة البديهة، طلب النبي ثوباً، فأتوا له بعباءة، فرشها النبي بعيداً عن الكعبة، ثم حمل الحجر الأسود بيديه ووضعه في منتصف العباءة، وطلب من كل قبيلة أن تحمل طرفاً من العباءة، وتحركوا به حتى الكعبة.

والنبي صلى الله عليه وسلم: فرش العباءة بعيداً عن الكعبة ليفرغ الطاقة الهادرة في نفوس القبائل، وعند وصول القبائل بالحجر إلى الكعبة، يأخذه بيديه الكريمة من فوق العباءة ويضعه في موضعه من بنية الكعبة.

البحث عن مصلح

يوم فتح مكة أثناء الطواف، لم يشأ لمس الحجر الأسود بيده، وأشار عليه من بعد، حتى لا يصبح لمس الحجر طقساً يقتتل الناس لتأديته.

أشار عليه بيده وقال: بسم الله الله أكبر.

كان النبي رحيماً بالقبائل يومها بلمس الحجر الأسود، ورحيما بالمؤمنين حتى اليوم بعدم لمسه.

يقول أنس بن مالك: دخل رسول الله المدينة يوم الاثنين فأضاء منها كل شىء. ومات رسول الله بالمدينة يوم الإثنين فأظلم منها كل شىء.

قالوا له: فماذا تتمنى يا أنس؟

قال: لا أريد شيئاً من الدنيا، لا أريد إلا شيئاً واحداً: ألقاه يوم القيامة فأنظر إليه وأقول له: خادمك أُنيس يا رسول الله، فيتلقاني فرحاً ويقول لي: مرحباً يا أنس تعال معي إلى الجنة.

هذا الإنسان العظيم أعده الله تبارك وتعالى لإصلاح الأرض. واختار الله له الزمان والصفات.

كان العالم يبحث عن مصلح، الأرض تبحث عن مصلح، وأن الله إذا أراد شيئاً هيأ له أسبابه.

والأرض تبحث عن مصلح يأخذها إلى الخير والحق والعدل